بقلم باتريك غوميز *
بورت أوف سبين، ترينيداد وتوباغو (IDN) -بحسب تصريحات الأمين العام لمنظمة الصحة العالمية (WHO) -الدكتور تيدروس غبريسوس- فإن العالم على مشارف كارثة أخلاقية تظهر جليًّا من خلال التحيُّز الأيديولوجي للمبدأ المؤيد لـ “تحقيق الأرباح على حساب البشر بُغية تحقيق القيمة القُصوى لأصحاب المصالح”.
إن عالمنا في القرن الحادي والعشرين -الذي يشهد مستويات متزايدة من التحيُّز وعدم المساواة الجسيمة- ليس جديدًا عليه هذا المشهد الكارثي؛ ذلك أن هذا التحيُّز يعود بجذوره إلى الهيمنة التاريخية لشركات الأدوية العالمية الكبرى التي من المفترض أن تطرح منتجات خضعت لدراسات جيدة من أجل تحسين/ إنقاذ الكوكب وحياة البشر والحيوانات على حدٍّ سواء.
وهذه الإدانة الشديدة اللهجة المُوجهة من قِبَل الأمين العام لمنظمة الصحة العالمية -الدكتور تيدروس غبريسوس- إلى المجلس التنفيذي للوكالة الأممية المُتخصصة تسلط الضوء من جديد على المشهد المُفجِع لحالة عدم المساواة المُمنهجة والواسعة النطاق التي تشهدها عمليات توزيع وإدارة لقاحات التحصين ضد وباء (Covid-19).
ولقد أوردت قناة يورونيوز الإخبارية (Euronews) (18 يناير) في محاولةٍ منها لتسليط الضوء على حجم التحيُّز وعدم المساواة -بحسب التصريحات التي أدلى بها الأمين العام لمنظمة الصحة العالمية الدكتور تيدروس غبريسوس- أنه يوجد ما يزيد على 39 مليون جرعة من اللقاح جرى توزيعها فيما لا يقل عن 49 دولة من الدول ذات دخول الأفراد المرتفعة، في حين جرى توزيع 25 مليون جرعة في الدول ذات دخول الأفراد المنخفضة.
وعند الإقرار بهذه الحقائق، يفهم المرء من اللغة الصريحة للأمين العام بأن العالم على شفا جُرُفٍ هَارٍ لوقوع كارثة أخلاقية وشيكة وأن ثمن هذه الكارثة سوف يُسدَّد من أرواح سكان دول العالم الفقيرة وسُبُل عيشهم.
وتؤكد الأخطاء المُفجعة للتاريخ الحديث في التعامل مع أوبئة نقص المناعة المُكتسبة (HIV) وأنفلونزا الطيور (H1N1) كيف أن بعض الدول وشركات الأدوية قد أعطت الأولوية للصفقات الثنائية مما أدَّى إلى ارتفاع أسعار العقاقير الضرورية على نحوٍ تجاوز قدرة العديد من الدول الفقيرة.
إن عدم قدرة الدول الفقيرة والصغيرة على الحصول على اللقاحات لا يُعد كارثة أخلاقية جديدة فحسب بل نتيجة مأسوية لأنماط التحيُّز وعدم المساواة المُمنهجينِ بين الأغنياء والفقراء، مدعومةً بالتوزيع غير العادل للثروات ووسائل التكنولوجيا الحديثة والمنافع العالمية على مستوى العالم.
الأمر الذي لا يُعد جديدًا بالنسبة لهؤلاء الذين في مقدورهم تذكُّر التجارب الماضية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي التي وقعت من الشركات المُتعددة الجنسيات المعروفة بأرباحها الخيالية من الأدوية والكيماويات الزراعية ذات الآثار الجانبية السامة على المزارعين وعمال الزراعة والأسر الريفية في الدول النامية في كلٍّ من قارتي أفريقيا وأمريكا اللاتينية.
كيماويات مكافحة الحشائش أو فضائح مثل فضائح أغذية الأطفال التي تسببت في ارتفاع معدلات الوفيات بين الرضع بسبب الترويج القوي لمجموعة من أغذية الأطفال في ظل غياب تعليمات الاستخدام المناسبة وكذلك عدم توفر المياه النظيفة والصرف الصحي المناسب، ذلك أن الأرباح المُحققة من مبيعات منتجات الأطفال تفوق في أهميتها بالنسبة لتلك الشركات الصحة العامة والتعليم وسلامة الغذاء.
نداء الأمين العام للأمم المتحدة والدعوة إلى قمة الجماعة الكاريبية
من جانبه وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن وفاة مليوني شخص في هذه الأيام جرَّاء تفشِّي وباء (Covid-19) من الكوارث المُوجعة والمُؤلمة، وتدل على غياب التنسيق الدولي. وأشار الأمين العام أنه بخصوص حالة عدم التنسيق فإننا نحتاج إلى المزيد من التكاتف والتعاون على المستوى العالمي.
هذا التعاون والتنسيق في الواقع من الضروريات المُلحة التي لا بد من تحفيزها ودعمها إلا أنه سيظل بعيد المنال في ظل حالة عدم المساواة المُمنهجة بشأن توفير وتوزيع عقارٍ من المفترض أن يتم التعامل معه على أنه من المنافع العامة ضمن الجهود المُبذولة للتغلب على هذه الأزمة العالمية التي أدَّت إلى إصابة 97 مليون شخص ووفاة ما يزيد على المليونين.
من منظورٍ متعدد الأطراف اقترح الاجتماع الطارئ الخاص لرؤساء حكومة الجماعة الكاريبية (CARICOM) الذي عُقد في 12 يناير 2021، أنه يجب الدعوة إلى عقد قمة عالمية لمناقشة التوفير والتوزيع العادلينِ والمُنصفينِ للقاحات ضمن إجراءات مكافحة وباء (Covid-19)
وفي واقع الأمر تُعد هذه من المبادرات الجديرة بالثناء، ونأمل أن تحظى بالدعم اللازم الواسع النطاق. فعلى سبيل المثال يمكن أن يشهد اجتماع رؤساء حكومات الكومنولث (CHOGM) في جدول أعماله بندًا يتناول الوباء ونقاشًا قويًّا وإجراءات حازمة في التعامل مع مسألة عدم المساواة في توزيع اللقاحات والحصول عليها وذلك في إستراتيجية التعافي بعد (Covid).
وبالمثل، يمكن أن تؤتي مبادرة الجماعة الكاريبية ثمارها في مجموعة 77 والصين وأن تحشد الأخيرة دعم 134 دولة مُتقدمة من دولها لهذه المبادرة، فمثل هذا الحدث يمكن أن يحقق مراده وأن يتضمن جدول أعمال من أجل التحقيق المُعمَّق لما يندرج تحت مفهوم المنافع العامة العالمية.
إذا كان هناك وقت دعت فيه الضرورة إلى ظهور قابلية تنفيذ هذا المفهوم بشكل ملموس من أجل مصلحة البشرية، فهو الآن. فرغم ما يواجهه العالم من خسائر فادحة في الأرواح، بصرف النظر عن أي حدود وطنية إلا أن هناك تمييزًا صارخًا ضد الأشخاص الأشد احتياجًا من كبار السن وسكان الدول الفقيرة في ظل هيمنة الدول المُتقدمة على اللقاحات وقدرتها على تحمُّل نفقات الجرعات وتوفيرها لشعوبها.
ومن أجل التعامل بشكل جزئي مع مشكلة التوزيع غير العادل وتمكين الوصول الشامل للمعرفة والإنتاج والتوزيع للقاحات التي تخضع لإشراف منظمة الصحة العالمية، فمن المفترض أن توفر منشأة (COVAX) كميات مضمونة بنسبة 20% من جرعات اللقاح لجميع الدول، ولكن هذا لا يزال يترك للبلدان جزءًا من التدافع التنافسي لتأمين الحصول على كميات كبيرة من اللقاحات من الشركات العالمية أو عن طريق الترتيبات الحكومية الثنائية وذلك مع الدول المُنتجة مثل الصين أو الهند.
من الواضح أن السياسات الرئيسية والقضايا التنظيمية تحتاج إلى نقاشات مُتعددة الأطراف وممارسة لمبدأ التضامن العالمي الذي تحدث عنه الأمين العام غوتيريش. ودون ذلك كله فلن تختفي حالة عدم المساواة المُمنهجة التي صارت السمة المُهيمنة بشكل مستمر على علاقات الحكومات والشركات والمجتمعات. وسيشهد العالم من جديد سعيًا وراء المكاسب المادية على حساب البشر؛ وبناءً عليه فسوف يستمر وباء (Covid-19) في حصد المزيد من الأرواح.
من الجيد أن يجري تحصين العديد من الأشخاص، ولكن علينا أن نعي جيدًا أنه “لن يظل أحدٌ منا في مأمن عن ذلك الوباء ما لم يجرِ تحصين الجميع”. [IDN-InDepthNews- 23 يناير 2021]
* شغل الكاتب -الدكتور باتريك غوميز- منصب الأمين العام لمجموعة دول أفريقيا والكاريبي والمحيط الهادئ (ACP) لمدة خمس سنوات حتى 29 فبراير 2020. وفي 5 فبراير 2020 أصبحت الهيئة الإقليمية المشتركة المُكونة من 79 دولة رسميًّا منظمة أفريقيا لمنطقة دول الكاريبي والمحيط الهادئ (OACPS). كما شغل الدكتور غوميز سابقًا منصب سفير جمهورية غيانا لدى الاتحاد الأوروبي في بروكسل.
حقوق الصورة: منظمة الصحة العالمية / ن. اكوا